فصل: (سورة الإسراء: الآيات 107- 109)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الإسراء: الآيات 94- 95]

{وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}.
{أَنْ} الأولى نصب مفعول ثان لمنع. والثانية رفع فاعل له. و{الْهُدى} الوحى، أي: وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل اللّه البشر. والهمزة في {أَبَعَثَ اللَّهُ} للإنكار، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند اللّه، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحى إلا إلى أمثاله، أو إلى الأنبياء، ثم قرر ذلك بأنه {لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ} على أقدامهم كما يمشى الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه {مُطْمَئِنِّينَ} ساكنين في الأرض قارّين {لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا} يعلمهم الخير ويهديهم المراشد. فأما الإنس فما هم بهذه المثابة، إنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون بشرا وملكا، منصوبين على الحال من رسولا؟ قلت: وجه حسن، والمعنى له أجوب.

.[سورة الإسراء: آية 96]

{قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)}.
{شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} على أنى بلغت ما أرسالات به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم {إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ} المنذرين والمنذرين {خَبِيرًا} عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم. وهذه تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووعيد للكفرة. وشهيدا: تمييز أو حال.

.[سورة الإسراء: الآيات 97- 98]

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}.
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} ومن يوفقه ويلطف به {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه {وَمَنْ يُضْلِلْ} ومن يخذل {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ} أنصارا. {عَلى وُجُوهِهِمْ} كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ} وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك: لا يبصرون ما يقرّ أعينهم، ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤفى الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون {كُلَّما خَبَتْ} كلما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل اللّه جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله: {ذلِكَ جَزاؤُهُمْ} إلى قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}.

.[سورة الإسراء: آية 99]

{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا (99)}.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا}؟ قلت: على قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} لأن المعنى قد علموا بدليل العقل أنّ من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن كما قال: أأنتم أشد خلقا أم السماء {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ} وهو الموت أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحودا.

.[سورة الإسراء: آية 100]

{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (100)}.
{لَوْ} حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، فلابد من فعل بعدها في {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} وتقديره لو تملكون، فأضمر تملك إضمارا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل، وهو أنتم، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، وتملكون: تفسيره! وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأمّا ما يقتضيه علم البيان، فهو: أنّ أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص، وأنّ الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم:
لو ذات سوار لطمتنى

وقول المتلمس:
ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى

وذلك لأنّ الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، وبرز الكلام في صورة المبتدإ والخبر. ورحمة اللّه: رزقه وسائر نعمه على خلقه، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم.
وقيل: هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، وأنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها {قَتُورًا} ضيقا بخيلا. فإن قلت: هل يقدر {لَأَمْسَكْتُمْ} مفعول؟
قلت: لا، لأن معناه: لبخلتم، من قولك للبخيل: ممسك.
وهل: استفهام إنكارى، أي: لو كافأت إخوانى لا أكون إلا مثل من قطع كفه بكفه الأخرى، والكف يذكر ويؤنث، فلذلك وصفه بأنه تقدم على الكف الآخر واعتدى عليه ووصفه بأخرى. والمقابلة بين الكفين تؤيد رواية إخوانى بالنون.

.[سورة الإسراء: آية 101]

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا (101)}.
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بني إسرائيل.
وعن الحسن: الطوفان، والسنون، ونقص الثمرات: مكان الحجر، والبحر، والطور.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس، فقال له عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا، أخرج يا غلام ذلك الجراب، فأخرجه فنفضه، فإذا بيض مكسور بنصفين، وجوز مكسور، وفوم وحمص وعدس، كلها حجارة.
وعن صفوان بن عسال أنّ بعض اليهود سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال: أوحى اللّه إلى موسى: أن قل لبنى إسرائيل: لا تشركوا باللّه شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ} فقلنا له: سل بني إسرائيل، أي: سلهم من فرعون وقل له: أرسل معى بني إسرائيل. أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم. أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. وتدلّ عليه قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فسال بني إسرائيل، على لفظ الماضي بغير همز، وهي لغة قريش. وقيل: فسل يا رسول اللّه المؤمنين من بني إسرائيل، وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقينا وطمأنينة قلب، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، كقول إبراهيم: {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. فإن قلت: بم تعلق {إِذْ جاءَهُمْ}؟ قلت: أمّا على الوجه الأول فبالقول المحذوف، أي فقلنا لهم سلهم حين جاءهم، أو بسأل في القراءة الثانية. وأمّا على الأخير فبآتينا. أو بإضمار اذكر، أو يخبروك. ومعنى {إِذْ جاءَهُمْ} إذ جاء آباءهم {مَسْحُورًا} سحرت فخولط عقلك.

.[سورة الإسراء: الآيات 102- 104]

{قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}.
{لَقَدْ عَلِمْتَ} يا فرعون {ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ} الآيات إلا اللّه عز وجل بَصائِرَ بينات مكشوفات، ولكنك معاند مكابر: ونحوه: وَجَحَدُوا بِها {وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وقرئ: {علمت} بالضم، على معنى: إنى لست بمسحور كما وصفتني، بل أنا عالم بصحة الأمر.
وأنّ هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض. ثم قارع ظنه بطنه، كأنه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك {مَثْبُورًا} هالكا، وظنى أصح من ظنك، لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته، ومكابرتك لآيات اللّه بعد وضوحها. وأما ظنك فكذب بحت، لأن قولك مع علمك بصحة أمرى، إنى لأظنك مسحورا قول كذاب. وقال الفرّاء: {مَثْبُورًا} مصروفا عن الخير مطبوعا على قلبك، من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما منعك وصرفك؟ وقرأ أبىّ بن كعب: {وإن إخالك يا فرعون لمثبورا} على: إن المخففة واللام الفارقة {فَأَرادَ} فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فحاق به مكره بأن استفزه اللّه بإغراقه مع قبطه {اسْكُنُوا الْأَرْضَ} التي أراد فرعون أن يستفزكم منها {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} يعني قيام الساعة {جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا} جمعا مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم: واللفيف: الجماعات من قبائل شتى.

.[سورة الإسراء: آية 105]

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)}.
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير. أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين {وَما أَرْسَلْناكَ} إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك شيء، من إكراه على الدين أو نحو ذلك.

.[سورة الإسراء: آية 106]

{وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)}.
{وَقُرْآنًا} منصوب بفعل يفسره {فَرَقْناهُ} وقرأه أبىّ: فرّقناه، بالتشديد، أي: جعلنا نزوله مفرّقا منجما.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قرأ مشدّدا وقال: لم ينزل في يومين أو ثلاثة، بل كان بين أوّله وآخره عشرون سنة، يعني: أن فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب {على مكث} بالفتح والضم: على مهل وتؤدة وتثبت {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} على حسب الحوادث.

.[سورة الإسراء: الآيات 107- 109]

{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}.
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل- وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحى وما الشرائع- قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم، فإذا تلى عليهم خرّوا سجدا وسبحوا اللّه تعظيما لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشربه من بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله: {إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا....} {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أي يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين- فإن قلت: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله: {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل: تسلّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأوّل: إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه؟ قال:
فخرّ صريعا لليدين وللفم

.[سورة الإسراء: آية 110]

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110)}.
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما سمعه أبو جهل يقول: يا اللّه يا رحمن، فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلها آخر. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر اللّه في التوراة هذا الاسم فنزلت. والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيدا. واللّه والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في {أَيًّا} عوض من المضاف إليه. وما صلة للإبهام المؤكد لما في أىّ، أي: أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} والضمير في {فَلَهُ} ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى، لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله: {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان: لأنهما منها، ومعنى كونهما أحسن الأسماء. أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم {بِصَلاتِكَ} بقراءة صلاتك على حذف المضاف، لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين {وَلا تُخافِتْ} حتى لا تسمع من خلفك {وَابْتَغِ بَيْنَ} الجهر المخافتة {سَبِيلًا} وسطا. وروى أنّ أبا بكر رضي اللّه عنه كان يخفى صوته بالقراءة في صلاته ويقول: أناجى ربى وقد علم حاجتي، وكان عمر رضي اللّه عنه يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان، فأمر أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا. وقيل: معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار. وقيل: {بِصَلاتِكَ} بدعائك. وذهب قوم إلى أنّ الآية منسوخة بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وابتغاء السبيل: مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة {وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.